<

تاملات: في المركز والاطراف

0

 

 

ركبت “الباص” المتوجه نحو مراكش الرحلة رقم 0292، الجو كالعادة، ارتفاع حرارة شهر يوليوز بهذه الديار امر وارد. المسافة 72 كيلو كلها وسط الفراغ ودرجات الحرارة القريبة من الاربعين ، لا طير يطير ولا بشر يسير .

قلت لما لا اكتب بعض السطور على عادة “الإثنوغرافية ” التي لا تسام من التدوين والحبر ونقل الملاحظة الى التامل، ومن ثم الى “فلسفة العلم” اذا شاء واستوعب الباحث ان ما يدونه يمكنه ان يعانق “المعرفة العلمية” اذا توفرت شروطها.

 

و ما دمت راكبا على متن هذه الوسيلة هي الاخرى التي كانت” فعلا” قد اجتهد مجلس جماعي في بداية انعتاق ابن جرير من المجهول نحو الاعتراف على اكتسابه، هذه التجارب السياسية التي لم تعمر طويلا لاسباب كثيرة فصلت فيها خلال “نتائج رسالة الماجستير” التي اعمل جاهدا اخراجها ليقراها الناس هذه الايام.

 

على كل، ليس موضوعي هو الحافلة او الباص بلغة “الانجلوساكسونيين”، ولو ان هذه الأداة اخرجت بؤسا مجتمعيا جماعيا من العتمة الى النقاش العمومي قبيل اعوام 2007 و 2008 و2009…ومن يومها سهل هذا المحرك على الخلق والطلبة المتوجهين نحو مراكش من اجل التعلم والتحصيل والتطبيب والشغل و الكثير من الاغراض والمنافع مطلبهم دفعة واحدة، من رهب الانتظارية الى شوق التحقق. و تكون “السياسة” قليل منها يصير “تفاوضا” وفضيلة مجدية للنفع والفائدة، واقعية في ايجاد الحل والتمسك بمشاكل المواطن والعمل على جعلها اولوية مشروعة، كذلك فان كثيرا من السياسة ينقل قضايا المجتمع من طاولة “الحل السليم” الى” علة الخصومات”، التي تجعل افعالا عول عليها الناس لتشفع لهم بما يتولد منها من “التوافق والاجماع” الى وضع اشبه بما ” فوق النقد” (باشلار) . فتتعطل المهام والمقررات من وضع الاماني الى وضع كالذي كان بالقبائل العربية حين تنقسم بين مناصرة ” جرير او الفرزدق” على حساب شبه الجزيرة العربية التي يضيع فيها الصوت والمدى مهما علا بدون حتى ادراك ان الجغرافيا هي السبب.

 

تاتي البهجة دفعة واحدة بالمدن الصاعدة بعض الاحيان خصوصا اذا توفر مجتمع مدني كالذي امن به الفيلسوف الالماني ” هيجل” لقيمته وهو يكتب (النظرية الاجتماعية). لانه بتقدير هذا الاخير احدى اهم شروط الحداثة ومسالة مهمة لتدريب مجتمع على ادراك الدولة بوعي، اي فهم معانيها ومقاصدها وقيمتها في هذا الربط بين الفرد الذي تنتجه الاسرة فيصبح مجتمعا، وسطا، بينه وبين تلك الشرعية التي تحمي “النظام الاجتماعي “باعتباره غاية وهدف .

 

على اية حال ما اردت اشراك القاريء فيه وهو انه ومهما تحققت من ” الامنيات ” بالمدن المتاخمة لمراكش فانها بالتالي تبقى ” اطرافا “. وهنا “الركيزة” التي ساشيد عليها سؤالي : ما الذي يجعل مستحيلا ان تتحول الاطراف من البلدات الصغيرة والمدن الصاعدة الى مراكز استقطاب مهمة ؟

فهاهي مراكش لا تزال ( تستبد بمركزيتها المطلقة) على حدود تماس مع ما حولها منذ قرون عدة، او على الاقل منذ فكرة “المهدي بن تومرت” غزو هذا الكيان الواقع امام مسجده وهو يستشرف ” اغمات” قبلة الدولة ومهد المرابطين، اي تنافس هذا على تشييد الرؤية وجعلها فعلا بمراكش المركز او حاضرة الجنوب المغربي ومدائنه العظيمة.

 

نحن كنا القلقون دائما من مصطلح “الحواز” في لغة المغاربة فلا يستسيغها الفرد، فحينما يقال ذاك او فلان “حواز”، هذا يحيل على معنى يزيد الوضع سوء بسوء تقدير الهويات، فالخضوع المطلق لاقاليم برمتها لسحر مراكش! يفسر الواقع من زوايا مختلفة، مهما اجتهد السياسيون والفاعلون الاداريون من اجل” ردم الهوة” انما تستعصي، هناك عوامل كثيرة شاءت لهذه المدينة ان تكون القلب النابض بالقوة وعشا كونيا تنمويا رائدا. بل لست هنا بالراغب وانا على متن المركبة لنقاش اغلب الاطر التحليلية في علم “الاجتماع الحضري او المرفولوجيا والديناميات” لتفسير راي يحتاج الى دراسات ميدانية معمقة (بول لازارسفيلد) بمنهاج او بدونه النتيجة لا تتعاطى مع الحسابات والبيانات بكل تاكيد ولا تصل الى سبب مرجعي محدد.

 

يوجد سحر (مراكش) ما الى حيث تتجه الحافلة وهي تقطع حدودا ادارية لتلتحق بأخرى في جو تهب فيه الريح القادمة من الغرب العابرة على البشر والحجر في اتجاه الشرق الماثل امام عوامل تعرية تنحت فيها الشمس والهزيع بالليل والحر بالنهار مواسم للفقر والقسوة والندرة مهما اجتهد السياسيون وخدام الادارة المغربية، لفك معادلة مدن كبيرة واطراف محايدة وضيقة بالناس والامنيات.

 

للإشارة، هنا كما هناك صارت ندرة الماء اكبر من مجرد ازمات الفناها كالحديث” الفاني” حول الثلوت والتصحر، بل يتجلى اليوم خوف من سرعة تبخر ما تجمعه السدود والوديان والانهار كل موسم تساقطات، فبات على اصحاب القرار بالعالم، عوض “كفالة” الفيل وحده التحقت به زوجته واصهاره ” الفيلة “دفعة واحدة، وصار وضع الكون أشبه باصفر البيض قبل ان تتسرب اليه النار من المخاط الذي يحميه، كانت الرحلة تقطع الارض الجافة والمناخ الواعد بالقسوة وحده السراب الذي لم يعد فيه ماء لذلك طفى عندي خطاب البيىئة وقد يكاد “البلور” ان يصير اسطورة …اسطورة الماء التي كانت…

 

بالعودة الى المركز والاطراف تلك التي وجدت وهي مستبد بها، اطراف تغذي مركزا بكل حياته…بالكثافة وبما يجمع الناس من المتاع والصحة والنفوذ كله يتذفق نحو المركز، وتبقى الاطراف “طاردة” كهذه الرحلة التي يركب فيها الكبار والصغار و الشباب والشيوخ بما يبدو نزوحا جماعيا، بحثا عن حلول لا تخفيها الملابس والاشكال والايمان البشري بالحق فيما يبدو حقا، حيث مقابلة” طبيب، استشفاء، علاج، جامعة، عمل،…”، كذلك تلك الطرق التي تحمل اغلبهم نحو المركز للانفاق هناك والسكن هناك والمرض هناك والموت كذلك هناك اذا صادف الدعاء نداء السماء.

 

مالذي لم يتمكن من فهمه العلم ليعيد توزيعا عادلا للقوة بين المركز والاطراف حتى يستطيع الناس ان يستقروا، ان يتجمعوا من جديد، ان يؤمنوا باطرافهم وان يخلق القدر معهم حركة دائرية عوض هذا الافراط في التدلل من تخوم لا حيلة لها الا خدمة مركز قاهر يتمتع بكل المؤهلات؟ ويمنع ولا يعطي بينما غيره يكافح بلا كلل من اجل انتزاع يعيد قلب الرحلات من المركز الى الاطراف في شكل عاكس للقوة، تلك التي لا تحدث الا لماما او نادرا ساعة من نهار كما حالة ابن جرير… الذي صار قادرا – طرفي- من النهار على حركة غير عادية مقارنة بسنون مضت، ومع كل الجهود لم تسطع هذه المدينة سرقت سحر المدينة الحمراء المنحاز الى الانانية والاطلاقية لوحده.

 

لماذا دائما هذا التقسيم؟ حتى في الاكوان هو تقسيم الاعلى الاسفل، القوى الضعيف، المتمدن البدوي، القريب والبعيد، العامر والفارغ، البارد الساخن، الواسع والضيق، الممتع المنفر، الغني الفقير، لماذا لم تنتهي هذه ” التعارضات” التي لها ما يبررها لانها تتشكل خارج الكون “كامو، اسطورة سيزيف” اولا (على ما اعتقد بعيدا عن العلم في قلب التامل)، ومن هناك الى داخله وتمر نحو الموجودات فيه… الى الحدود الدونية التي تتصل بهذه الرحلة التي تعبر يوميا من الاطراف نحو المركز كالمستقيم ( الجبر والمنطق) مانحة البشر بتلك التخوم نفسا او فرصة او بلسما سرعان ما يعود هؤلاء جميعا الى الهامش…هامشهم الذي بدوره يصبح مركزهم وديارهم وعبئهم وعلتهم وعبثهم. الديار و الاقدار التي توزعت بين مراكز واطراف، بين اعباء الماضي حيث يستثمر الحظ في التاريخ ويبني فلسفته خارج المنهج ، ” بموارد دماغه بدون تحفظ”(بيرسي بريدجمان ،حائز على جائزة نوبل في الفيزياء) عندما لا يصبح للمناهج قيمة ولا للعلل الاولى ولا للفيزياء والرياضيات والبيولوجيا حظ في التاويل والتفسير المقنعين.

 

صبري يوسف، كاتب راي وباحث بسلك الدكتوراه بعلم الاجتماع السياسي والتنموي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.