فرجة الخطاب !
فرجة الخطاب !

يوسف بايو، باحث في سلك الدكتوارة، علم اجتماع.
بنوع من الشغف تابعت حلقة الأمين العام لحزب الاشتراكي الموحد “حزب الشمعة” جمال العسري، في حوار مع برنامج “صوت المغرب” الذي يقدمه الصحفي يونس مسكين، أملا في أن يكشف اللقاء عن خطاب سياسي يساري رصين ومخالف لتخبطات خطاب الجماهير ذات التوجه اليساري، وأن أجد بين ثنايا خطاب الأمين العام الجديد كما يفضل الإعلام أن يطلق عليه؛ خطابا واقعيا يعيد توجيه أصابع السياسة والأحزاب “على الأقل أحزاب اليسار” إلى مواقع الخلل الحقيقي في الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا المجتمع، وربما عن توجهات وقضايا جديدة للدولة.
بهذه المقدمة تسلحت ذهنيا وجعلتها افتراضا يمكن أن يتحقق في خطاب الأمين العام الجديد.
في ثنايا اللقاء مند المقدمة الكلاسيكية التي يمكن لأي شخص سياسي ينتمي إلى توجه ما أن يقدم به نفسه، قدم العسري نفسه على أنه اشتراكي ديموقراطي- شعبي وأنه ليس بالشخصية الجديدة كما يقدمه الإعلام ويتداول سياسيا بل توليه للأمانة العامة ما هو إلا تتويج لمسار طويل من النضال ومن التكوين ومن اختبارات الحقل السياسي والنقابي.
لقد ثم انتخاب العسري في 5 نونبر 2023، أمينا عاما لحزب الاشتراكي الموحد خلفا لنبيلة منيب التي كانت على رأس ولايتين.
رفض العسري أن يعرف الحزب بمنيب وأن يغيب اسمه من تاريخ الحزب، وأرجع هذا الخلط بين الأشخاص والحزب إلى دور الإعلام العمومي، بدا هذا المبرر ضعيفا جدا فأي محاولة بحث في سيرة العسري يظل مرهونا بحضور منيب التي صار اسمها لصيقا بالحزب يكفي كتابة اسم الرجل على محركات البحث حتى تجد صورة منيب أكثر حضورا حتى في أبسط المقالات الصحفية واللقاءات التي تعرف ب العسري. “وربما ذلك راجع الى طبيعة العلاقة كما شرحها العسري، “صداقة، وأخت، ورفيقة”.
فيما تبقى من الحوار فإن كل ما قدمه العسري في فرصة التعريف بنفسه وبالحزب ومستقبله يدخل في خانة تبرير نجاح اليسار داخل الساحة السياسية والنضالية والنقابية.
لكن بمجرد إنهاء اللقاء يتبين من خلال تتبع منطق الخطاب الظاهر والمكسوت عنه أن هذه التبريرات تحمل في طايتها وجهين لعملة ولتجربة سياسية، فهي في ذات الوقت دفاع وترويج لقدرة اليسار على الصمود أمام المخزن والشارع، لكنها أيضا تبرير للفشل الدريع للتوجه بكل أطيافه أمام المخزن وفي تأطيره للفضاء العام، انطلاقا مما سماه بالحصار “حصار المخزن” للحزب، حصار اختزله العسري في حادثة منع الأمينة العامة السابقة والبرلمانية الحالية نبيلة منيب “أيقونة الحزب” من دخول جلسات مجلس النواب بدون جواز تلقيح الذي اعتبره آنذاك حزب الشمعة خرقا صارخا للدستور ويقف العسري عند هذه الحادثة كمبرر وحيد للحصار، في حين أن باقي المبررات الأخرى للفشل خاصة في الانتخابات السابقة هي مبررات لها صلة بالمطبخ الداخلي لكثلة اليسار.
غير ذلك فالركوب على “حركة الأساتذة المفروض عليهم التعاقد” وخطاب الشارع في فترة حركية قطاع التعليم هو نوع آخر من إعلان فشل اليسار، وهي قراءة مغلوطة ربما يريد بها العسري كسب بعض التعاطف من “أسرة” قطاع التربية والتعليم، كما غيره من الأحزاب التي تحاول دائما في خطابها كسب عاطفة كتلة هذا القطاع قبيل كل “عرس” انتخابي سواء بالوعود المسطرة في البرامج الحزبية أو بادعاء التأطير للمطالب.
وهي نفس الحجة التي يقدمها العسري لخطابات الشارع التي يعتبر أن جوهرها وظاهرها مؤطر إيدلوجيا ضمن خطاب اليسار وبالتالي خطاب الحزب وتوجهه، وهذا الجوهر يكمن في العدالة والحرية والتنمية وفي أقصى حدودها الحريات العامة.
سهوا أو قصدا نسي العسري أن هذه المطالب سواء كانت من قطاع التعليم أو من قطاع الصحة..، من اليمين أو من اليسار، من فوق الهرم الاجتماعي أو من أسفله؛ فهي مطالب لشعوب العالم وتنتمي إلى حقب تطورت فيه المجتمعات من حاجياتها ولها طبيعة كونية ولا صلة لها باليسار ولا اليمين، خطاب إنساني من حقبة “نوح بكونه أول من بدأ التنظير لخطاب التنمية كما حاولت إقناعنا به ذات مرة منظرة جامعية تنتمي ثقافيا إلى إيديولوجية اليمين المحافظ “.
إذا كان خطاب العسري هو ما يمكن أن نبرر به خطاب اليسار وتوجهاته فهو لا يختلف عن اليمين وباقي التوجهات الأخرى خاصة خطاب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق، الذي تبنى خطاب العفاريت لتبرير فشله وفشل حزبه ويحق له ذلك باستدعائه للعفاريت بكونها جزءا من تراث الخلفية الإيديولوجية للحزب “حقل الدين”. وليبدو اليسار مختلفا في تبرير فشله في الساحة السياسية، فقد خلق من سياقه التاريخي عفريته الخاص “المخزن” والحصار.
إذا كان اليسار المعارض يقود بهذا المعنى توجهاته السياسية والجماهيرية وبهكذا نوع من الخطاب والإنجازات فلن يستطيع أن يقلب موزان القوة “كما يريد العسري” مقارنة بباقي التوجهات خاصة أن حزب الأمانة العامة بعفارتيه الظاهرة والخفية يملك توجهات واضحة وقضايا كبرى داخل الدولة وما راكمه من تجربة سياسية صارت له القدرة على أن يشير بأصابعه إلى الزاوية التي يسكن فيها العفريت.
عند نهاية الحوار يتشكل انطباع أن كل إنجازات اليسار في المرحلة الراهنة هي الوقفات، عبر ما عبر عنه العسري ب “من مساندة النضالات إلى الانخراط في النضالات “.
ويبدو أن سياق الخطاب أيضا لا يخرج عن التسخينات الانتخابية التي بدأت داخل ما يسمى في الساحة السياسية بالتعددية الحزبية؛ بداية ككل بدايات الماضي فهناك من بدأ بتوزيع القفات مند شهر رمضان طمعا في إسكات جوع الفقراء وفي استغلال لأدوات الإحسان العمومي الذي ساعد في تورم سرطان التدبير لقضية الفقر داخل المجتمع فثقافة الإحسان لا يمكن أن تلتقي أبدا مع ثقافة السياسة العمومية للفقر التي تشتغل وفقه الدول الحديثة، وهناك من بدأ في نزع ملكية الأراضي لاستغلالها، وهناك من اكتفى بنزع لباسه القديم ليظهر بلباس آخر.
فخطاب نبيل بن عبدالله في هذه التسخينات مند شهور الذي موقعه عن المستقبل والذكاء الاصطناعي، هو جلباب ونوع آخر من خطابات الوهم السياسي الذي يباع كأقراص مخدرة تساعد على القيام بتسخين جيد استعدادا “لبطولة الانتخابات الاحترافية”
ورغم أن بن عبدالله يعرف أكثر من العسري ومن بن كيران ..إلخ أن الأحزاب استنفدت كل وعودها وكل أوراقها في كسب ثقة المواطن في كل مناسبة انتخابية، إلا أن انه لابد لمجموعة من الأحزاب ان تعري في لافتاتها وأن يعلنوا أننا “لا بد أن ندخل بها” أي بالتكنولوجية وأن الحكومة القادمة ستكون برئاسة ربو لتكتمل حنكة التقناويين بزعامة رجل من صناعة الصين…وربما تستعين بعض الأحزاب بربو “رجل الذكاء الاصطناعي” حافظ للقرآن أو بلحية بعد أن فقدت لحية أحزابهم مصداقيتها، ..
إذا كان هناك من سياقات لابد من تأطيرها محليا واجتماعيا فعلى الأحزاب التي تريد التغيير سواء من حلف السيار أو اليمين أو غيرهما فالتكنولوجيا ليست مشروعا اجتماعيا لدولة تريد أن تصير اجتماعية بل قد يكون مشروعا ناجحا وناجعا لدولة “سبيرانية”.
الأحزاب الحقيقية التي لها صلة بواقعها الاجتماعي تعكسه في برامج سياسية مقنعة، تضع برامج قابلة للتحقق وقادرة على أن تصالح بها المواطن؛ بمصالحة الفلاح ببرامج تعيد خلق التوزان بين الفلاح الصغير والملاكين الكبار، أن تصالح الفقير بسياسة تقضي فيها على الفقر وفوارقه وأن تصالح الموظفين باقتصاد يضمن كرامة عيشهم. أما التكنولوجيا إن لم تكن تحررية فلن تزيدنا إلا بؤسا اقتصاديا واجتماعيا بتمديد الحاضر إلى المستقبل بنفس البنى وفقط بأدوات مختلفة.
التكنولوجيا مجرد انتقال بلا ضمانات شبيه بالانتقالات الأخرى الذي عاشته المجتمعات “من مجتمعات صيد إلى مجتمعات زراعية ومن زراعية إلى صناعية…الخ)
وبما أن الدولة تشتغل على مشروع الانتقال الطاقي من خلال السعي إلى تطوير الإمكانيات في قطاع جديد هو قطاع الهدروجين الأخضر “L’hydrogène vert ” فالنظر في حلول محلية مكيفة مع السياقات البيئة والاجتماعية لما هو محلي يمكن أن يتم بالاستعانة بالتكنولوجيا، اللجوء إليها كتكنولوجيا بيئة ” إيكولوجية” كبديل أكثر استدامة، ذلك أن المغرب من البلدان الأنسب لتطوير تكنولوجيا ذات بعد إيكولوجي eco_ technologie” والتي تتماشى مع موارده الطبيعية وإرثه الزراعي، حيث يمكن استخدام الطاقة الشمسية بكفاءة عالية لأغراض فلاحية ـ صناعية، اقتصادية ومنزلية.
ما يبدو مسكوتا عنه في خطاب العسري وبن عبدالله وابن كيران.. وغيرهم هو أن الخطاب السياسي للأحزاب ينحاز إلى إعادة تسويق ما يطفو على السطح وإعادة تشكليه في قوالب جاهزة وعاطفية، بينما تظل مناطق الظل في المجتمع عصية عن هذا الخطاب خاصة ظلال القطاعات الأساسية التي تعاني من التهميش والإقصاء رغم أن بعض من مؤسسات الدولة تذكر من حين لآخر من خلال تقاريرها بأزمة هذه القطاعات خاصة القطاعات غير المهيكلة؛ وذلك ما فعلته المندوبية السامية للتخطيط في متم شهر ماي 2025 حيث أصدرت تقرير يخص نتائج الدراسة الوطنية حول القطاع غير المهيكل 2023/2024″ الذي يبين مدى قوة هذا القطاع في ضم ممارسات اقتصادية مهمة غير مؤطرة قانونيا وحقوقيا، فمن حيث أرقام المعاملات التي ارتفعت من 409.4 إلى 526.9 مليار درهم ما بين 2014 و2023 (+28.7%)، بمعدل نمو سنوي 2.6%. ومن حيث الإنتاج: بلغ 226.3 مليار درهم في 2023 (+22.3%)، لكن مساهمته في الإنتاج الوطني غير الزراعي انخفضت من 15% إلى 10.9%.
بالإضافة إلى الأرقام التي يقدمها التقرير فإنه يكشف عن فئات عريضة من المجتمع تشتغل وتنتج وتعيش حياتها الاقتصادية ضمن “اقتصاد الفقراء” خارج الاقتصاد الرسمي، كما بينت تقارير رسمية أخرى عن عديد من قضايا هذا المجتمع الغير المؤطرة سياسيا داخل الأحزاب وفي برامجها السياسية. إن العامل الرئيس الذي تكشف عنه “فرجة الخطاب السياسي” في الإعداد لانتخابات 2026، هو توسيع هوة الثقة بين المجتمع والأحزاب.
لقد سبق للمعهد المغربي لتحليل السياسات (MIPA Institute)، أن أظهر من خلال البحث في مؤشرات الثقة في المؤسسات أن المؤسسات السياسية بما ذلك الأحزاب والبرلمان.. هي من أكثر المؤسسات التي فقدت ثقة المجتمع المغربي، وأكيد أن إعادة بناء هذه الثقة لا تحتاج إلى مزيد من فرجة الخطاب بقدر ما تحتاج إلى عمل سياسي يترجم معاناة الفئات العريضة من المجتمع إلى أمل في تحسين ظروف العيش وتحقيق مبدأي الكرامة والعادلة.
